د. محمد عمارة
كان اليهود العبرانيون بالمدينة المنورة -في السنوات الأولى من قيام دولة النبوة- يتربصون بهذه الدولة الدوائر، حريصين على هزيمتها أمام الشرك الوثني، عاملين على تأليب القبائل الوثنية على محاربة الإسلام والمسلمين -رغم التعاقد الذي عقده معهم المسلمون-؛ كي يعيشوا في إطار هذه الدولة الإسلامية، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
ولذلك، انتهز يهود بني النضير فرصة هزيمة المسلمين في موقعة أحد -7 شوال سنة 3هـ/ 23 مارس سنة 625م- فنقضوا عهدهم مع الدولة الإسلامية بعد أشهر من هذه الهزيمة سنة 4هـ.. لقد كان بينهم وبين المسلمين عهد أن "يتعاونوا في أداء الديات"، فنقضوا هذا العهد. وعندما ذهب إليهم الرسول r يدعوهم للوفاء بتعهداتهم، رفضوا بل وتآمروا على قتله!.. فكان حصار المسلمين لهم، حتى خرجوا من ديارهم بعضهم إلى "خيبر"، وبعضهم إلى الشام.
وبخروج بني النضير من ديارهم سنة 4هـ بعد خروج بني قينقاع -عقب خيانتهم سنة 3هـ-، لم يبق بالمدينة من اليهود العبرانيين سوى يهود خيبر، التي تحولت إلى مركز للتآمر على الإسلام والمسلمين!! ومعهم يهود بني قريظة القاطنين حول المدينة المنورة.
فلماذا اجتمعت قبائل الشرك والوثنية لحصار المدينة المنورة في غزوة الخندق -ذي الحجة سنة 5هـ/ سنة 923م- واشتد الحصار على المسلمين؟ حتى بلغ حالهم تلك الصورة التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا} [الأحزاب: 10- 13].
في ذروة ساعات العسرة هذه -عندما زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وظن الناس بالله الظنون، وعلت أصوات وتحركات الجبن والنفاق- في هذه اللحظات الحرجة انتهز يهود بني قريظة الفرصة، فنقضوا عهدهم مع الدولة الإسلامية، وفتحوا -في مساكنهم- ثغرة كي يقتحم منها المشركون المدينة المحاصرة!..
لكن نصر الله للمؤمنين به، أحبط كيد خيانتهم، فكانت العاصفة التي هبت على مواقع المشركين، والتي اضطرتهم إلى الانسحاب.. وبقي خونة بني قريظة لمصيرهم، الذي ارتضوا فيه التحكيم والمحاكمة على هذه الخيانة.. فحكم الذين ارتضوهم من حلفائهم بقتل المقاتلين منهم جرَّاء خيانتهم في ساعة العسرة، ونقضهم العهد الذي سبق وعاهدوا عليه المسلمين!!
نعم.. لقد زحف المسلمون -عقب جلاء المشركين من حول المدينة- إلى الأحياء التي يسكنها هؤلاء الخونة، فحاصروهم خمسًا وعشرين ليلة -في ذي الحجة سنة 5هـ- ورفضوا السماح لهم بالجلاء والخروج إلى الشام أو الخروج إلى خيبر.. فلما ارتضوا التحكيم في خيانتهم كان هذا هو حكم حليفهم سعد بن معاذ، الذي ارتضوه هم حكمًا في هذا الذي اقترفوه.
وبكسر شوكة يهود بني قريظة.. لم يبق بداخل المدينة المنورة من بؤر التآمر والخيانة والتحريض على الدولة الإسلامية سوى يهود خيبر، الذين مردوا على التآمر والخيانة والتحريض، فأوغلوا في طريقها، متحالفين مع الشرك الوثني ضد التوحيد الذي جاء قرآنه مصدقًا لما معهم، وضد المسلمين الذين يصلون ويسلمون على أنبياء بني إسرائيل!.. نعم.. ساروا بها وأوغلوا من هذا الطريق، غير معتبرين بمصائر الذين سلكوه!!