د. عماد الدين خليل
لا يدري المرء كيف تسرّبت إلى معظم طلبة التاريخ في جامعاتنا العربية والإسلامية عقدة الإحساس بالنقص إزاء الفروع والتخصصات الأخرى، بينما نجد هؤلاء الطلبة في جامعات العالم المتقدم يتمتعون بأعلى وتائر الثقة والطموح والاعتقاد بأنهم يمضون للتخصص في واحد من أكثر فروع المعرفة الإنسانية أهمية وفاعلية. بل إننا نجد كيف أن العديد من قادة الغرب وساسته ومفكريه المهيمنين على مفاصل الحياة الحساسة فيه، هم من خريجي التاريخ.
لقد أطلق أجدادنا على التاريخ اسم "أبي العلوم" وهم يدركون جيدًا أن المعرفة التاريخية تتطلب إلمامًا بمعظم المعارف الإنسانية الأخرى؛ لأن التاريخ إنما هو حركة حياة بكل ما تنطوي عليه الكلمة من معارف وخبرات.
ومنذ عقود بعيدة مارس الآباء في ديارنا خطيئة عدم تنبيه أبنائهم إلى أهمية المعرفة التاريخية، بل إنهم عمقوا في نفوسهم نظرة الازدراء إلى التاريخ، وإلى معظم الفروع الإنسانية الأخرى، من أجل أن يدفعوا بهم صوب الفروع العلمية الصرفة التي كانوا يعتقدون أنها تقدم ضمانات أكثر للمستقبل على المستوى المعاشي، ومكانة اجتماعية أعلى. ولقد آن الأوان لكي يولي الإسلاميون المعرفة الإنسانية، والتاريخية خاصة، اهتمامًا أكبر، ويغروا أبناءهم بالإفادة من الفرصة الجامعية من أجل أن يكون هناك عدد كافٍ من المتخصصين في هذا الفرع قدير على مجابهة التحديات الثقافية ذات البطانة والخلفيات التاريخية.
لقد كتب المؤرخ الفرنسي المعروف (هنري كروسيه) منذ ما يزيد على نصف القرن، كتابه المعروف "رصيد التاريخ "محاولاً فيه أن يمارس قراءة متأنية للتاريخ الأوربي (المسيحي)، وأن يمضي إلى ما وراء الوقائع والأحداث بحثًا عن الجوهر والمغزى. وكم نحن بحاجة إلى محاولات كهذه تمضي للتعامل مع تاريخنا بحثًا عن رصيده الباقي القدير على الحضور في قلب العصر، وفي المستقبل؛ من أجل إعادة صياغته بما يجعله أقرب إلى مطامح الإنسان وهمومه من خلال التصور المحكم الذي جاء به هذا الدين.
إن التاريخ ليس -كما قد يخيل للبعض- مجرد حروب أو معاهدات، أو سلالات حاكمة تسقط وأخرى تقوم.. إنه قبل هذا وبعده خبرة حضارية، ومشروع للتعامل مع الإنسان، وفرصة لاختبار قدرة العقائد والأديان على التحقق في الزمن والمكان، وعلى تأكيد واقعيتها ومصداقيتها.
وتاريخنا بالذات يتميز بكونه انعكاس أكثر صدقًا لتأثيرات الإسلام، لقدرة هذا الدين على إعادة صياغة العقل والوجدان، وجدولة الظواهر والوقائع والأشياء بما يجعلها جميعًا في حالة الوفاق المنشود الذي هو أحد الأهداف الأساسية لهذا الدين الذي يستهدف جعل الإنسان والعالم يتجهان بنبضهما وحركتهما ومعطياتهما كافة إلى الله وحده.
إن الدراسة التاريخية والحالة هذه تغدو ضرورة من الضرورات؛ لأن العقيدة لا تتحرك في الفراغ ولا بد لها من فضاء تتشكل فيه وتعبر عن قدرتها على التحقق، حيث يصير التاريخ المرآة التي تعكس الحالة الإسلامية، بدرجة أو أخرى، على صفحة العالم.
ولقد اعتمد كثير من الباحثين في التاريخ الإسلامي عبر القرنين الأخيرين، وبخاصة في دوائر الفكر الاستشراقي، والغربي عمومًا، منهجًا معكوسًا في التعامل مع هذا التاريخ، منهجًا ينطوي على محاولة متعمدة أو غير متعمدة، لفك الارتباط بين الإسلام وبين التاريخ. بل إن بعض المحاولات التي تبلغ أقصى حدتها في الاستشراق اللاهوتي ثم الماركسي، أرادت لمفردات التاريخ الإسلامي أن تبحر باتجاه مضاد للمطالب الإسلامية، وأن تتخذ موقفًا نقيضًا لمعطيات هذا الدين وثوابته.
وهكذا أرغمت الوقائع على مغادرة رحمها الحقيقي الذي انتزعت منه انتزاعًا لكي تتشكل وفق منهج خاطئ في بيئة غير بيئتها، ونقول أشياء غير التي قالتها بالفعل. وينتهي الأمر إلى صياغة شبكة من الاستنتاجات التي جعلها التكرار المتواصل بمنزلة مسلمات لا تقبل نقضًا ولا جدلاً. ولقد تم بذلك حفر خندق عميق بين طرفي القضية: (العقيدة والتاريخ)، وكأن ليس هناك تأثير ذو فاعلية عالية يلتقي فيه التصور مع الواقع لكي يعيد بناءه أو تشكيله، أو لكي يجري في تركيبه على الأقل تغييرًا من نوع ما يعبر في نهاية الأمر، ليس فقط عن رغبة هذا الدين في إعادة صياغة العالم وفق مقولاته وتصوراته، ولكن عن قدرته على تحقيق هذا الهدف العزيز الذي تمخض عن متغيرات "تاريخية" شديدة الحساسية بالنسبة لكثير من القضايا التي تهم الإنسان والجماعة البشرية.
وعلى ذلك فإن أية محاولة جادة للتأصيل الإسلامي للتاريخ، إنما هي محاولة منهجية ضرورية لتعديل الوقفة المعكوسة، أو الجانحة في أقل تقدير، وإعادة الأمور إلى نصابها من خلال محاولة تلمس طبيعة الارتباط المؤكد تاريخيًّا بين "العقيدة" و"الواقعة"، وبأدوات ومعايير قديرة على إدراك الظاهرة الإسلامية والتعامل معها باعتبارها لقاء حميمًا بين قيم الوحي والوجود. ولن يتحقق هذا بدون حضور المؤرخ الإسلامي الجاد الذي يملك -ابتداءً- الثقة بالتاريخ كنشاط علمي معرفي قدير على إضاءة الحقيقة الإسلامية، وتعميق ملامحها المتميزة عبر التاريخ.