[كتب: د / قاسم عبده قاسم
15/02/1431 الموافق 30/01/2010
اقترن ذكر التتار في التاريخ، غالبا، بالحرب والغزو، ولكنهناك جانبًا مختلفًا عن الحرب والغزو اللذين سيطرت أخبارهما على صفحات كتب المؤرخينوالمعاصرين، وسنحاول التركيز على جوانب العلاقات الإيجابية على المستوى السكاني،والاجتماعي، والثقافي بين العالم العربي والتتار.
على الرغم من أن دولة مغول القفجاق (القبيلة الذهبية) حول نهر الفولجاجنوب روسيا قد سبقت مغول فارس في اعتناق الإسلام منذ عهد بركة خان فإن التتار فيفارس قد دخلوا الإسلام أيضًا بعد اعتناق قازان (غازان) الإسلام في أواخر القرنالثالث عشر الميلادي.
كان إسلام «بركة خان»، زعيم القبيلة الذهبية فرصة لبناء نوع منالعلاقات مع المنطقة العربية، فقد رأى السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري(وهو من مغول القفجاق أيضًا) في هذه المملكة المغولية حليفًا مهمًا ضد هولاكووأتباعه ممن كانوا لايزالون على الوثنية. وقد توترت العلاقات بين بركة خان (كبيرسلالة جنكيز خان آنذاك) وهولاكو، وتراشق الاثنان بالاتهامات، كان هولاكو غاضبًا لأنبركة خان اعتنق الإسلام على حين كان بركة خان حانقًا على هولاكو؛ لأنه دمر جميع مدنالمسلمين وقضى على أسر ملوك الإسلام جميعهم، ولم يميز بين الصديق والعدو وأعدمالخليفة، من دون مشورة كبار الأسرة، ثم تطورت الأمور بين الجانبين إلى مستوى الحربالفعلية. وقد أدى هذا الموقف إلى تقارب بركة خان مع السلطان الظاهر ركن الدين بيبرسالمؤسس الفعلي لدولة سلاطين المماليك في مصر. وقد كان الطرفان حريصين على هذاالتقارب لمواجهة العدو المشترك المتمثل في مغول فارس.
من خضم أهوال الحرب بدأت العلاقات الإنسانية تحفر طريقها بينالجانبين، وقد ذكرت المصادر التاريخية في حوادث العام 660هـ / 1662م قدوم هجرةمحدودة من التتار على حدود بلاد الشام، فأمر بيبرس بإكرامهم وإرسالهم إلى مصر،وقابلهم بنفسه. وكانوا حوالي مائتي فارس ومعهم أولادهم ونساؤهم، وسكنوا بأرض اللوقفي القاهرة، وجعل بيبرس أكابرهم من أمراء دولته، ثم ضم الباقين إلى فرقة المماليكالبحرية ، واعتنقوا الإسلام.
ويبدو أن معاملة بيبرس الكريمة لهم قد أغرت مزيدًا منالتتار على القدوم إلى مصر، ففي السنة التالية جاء من التتار أكثر من ألف وثلاثمائةفارس سكنوا أيضًا في اللوق.
ووصل رسولان من بركة خان وهما جلال الدين بن قاضي دوقات، وعز الدينالتركماني يحملان رسالة ودية إلى بيبرس الذي رد ردًا جميلاً، وأرسل إلى بركة خانرسالة مصحوبة بهدية فاخرة، وأعلن موافقته على ما جاء في رسالة بركة خان ، وقد قابلبركة خان رسل بيبرس وأعجبته رسالة بيبرس.
ومن ناحية أخرى أمر بيبرس بالدعاء للخان التتري على منابر القاهرةوالقدس والحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة، كما تزوج بيبرس من ابنةبركة خان توطيدًا لهذه العلاقات.
وعلى مستوى آخر تمثلت العلاقات الدينية بين العالم العربي ودولة مغولالقفجاق في وجود عدد من الفقهاء المسلمين في بلاط بركة خان، وقد كان عنده صوفي منأهل الفيوم اسمه «الشيخ أحمد المصري»، و«... له عنده حرمة كبيرة...». وعند كل أميرمن أمرائه مؤذن وإمام، ولكل «خاتون» مؤذن وإمام، وللصغار مكاتب يتعلمون فيها القرآنالكريم.
وفى سنة 670هـ وصلت رسل بيت بركة خان، زعيم القفجاق، «... وكان مضمونالرسالة على أيدي رسل بركة، مكتوبًا بجميع ما استولى عليه هلاوون (هولاكو) مما كانفي أيدي المسلمين من قبل، يكون في ملك السلطان الملك الظاهر, وأن يساعدهم على قلعآثار بيت هلاوون، فأحسن السلطان لهم الجواب في ذلك ووعدهم ببلوغ المقصود».
وتولى الحكم بعده ابنه السلطان الملك السعيد ناصر الدين بركة خان «وهو ابنه الذي أنجبه من ابنة بركة خان، زعيم المغول القفجاق، وقد أعطاه نفس اسمجده لأمه تيمنًا بهذا الجد.
وكان عمر الابن سبعة عشر عامًا، ودخل دمشق في شهر ذي الحجة من السنةنفسها وصحبته والدته بنت بركة خان ، ولكن السلطان الصبي لم يكن على شاكلة أبيه ، وبعدتطورات خلع نفسه من الحكم.
وتولى الحكم «السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي الصالحيالنجمي العلائي» ويرجع أصله - مثل سلفه ركن الدين بيبرس - إلى مغول القفجاق ، وهمالذين سبقت الإشارة إليهم, وعندما تولى الحكم كانت علاقاتهم بدولة سلاطين المماليكممتازة بسبب التحالف والمصاهرة بين بيبرس وبركة خان، وربما يكون من الأمور ذاتالدلالة والأهمية أن بيبرس وقلاوون كانا من القبيلة الذهبية، وان زوجة بيبرس وأمابنه السلطان السعيد بركة خان هي ابنة خان هذه المملكة المغولية.
مواجهة التتار:
على أي حال فإن السلطان المنصور قلاوون ورث سياسة سلفه بيبرس، وكانعليه مواجهة تتار فارس، الذين انتهزوا فرصة الاضطراب الذي أعقب وفاة بيبرس ومتاعبالبداية التي واجهت قلاوون، وبدءوا شن هجماتهم على المناطق الخاضعة لحكم دولةسلاطين المماليك، ثم مات أبغا بن هولاكو، وأخذت العلاقات مع التتار اتجاها آخر - لميستمر طويلا بعد أن اعتنق تكودار هولاكو الدين الإسلامي ، إذ تولى هذا الرجل حكمفارس وسمى نفسه «أحمد أغا سلطان بن هولاكو» .
وقد أكرم السلطان المنصور قلاوون رسل الخان التتري، وخرجوا من القاهرةسرًا كما دخلوها سرًا ، على أي حال، كان أحمد تكودار قد اعتنق الإسلام قبل ولايةالعرش ، وقد أرسل إلى فقهاء بغداد رسائل تحمل هذا المعنى.
مشكلات الوراثة :
بيد أن مشكلات وراثة العرش في مملكة مغول فارس كانت سببًا في تطورالأمور على النحو الذي أدى إلى خروج أرغون بن أبغا، الذي كان أبوه قد عهد إليهولاية العرش، ضد عمه أحمد تكودار في خراسان.
وعلى الرغم من هزيمة أرغون وسقوطه أسيرًا في يدي عمه الذي «... عادطالبًا تبريز ، فحضرت زوجة أرغون ووالدته ، وخواتين كثيرة من الستات التي لهن الحق فيالدخول على الملك والسؤال في العفو عن أرغون وإطلاق سبيله والاقتصار به على خراسانكما كان...». على حد تعبير المؤرخ بيبرس الدوادار.
ولكن التتار في فارس - أو كبارهمبالأحرى - كانوا قد حقدوا على الخان أحمد سلطان تكودار عندما رفض إطلاق سراح أرغون،قبل تدخل قريباته من الخواتين، وقبض على عدد من كبار التتار في فارس، وألزمهماعتناق الدين الإسلامي ، وقد ساروا جميعًا وأطلقوا سراح أرغون من سجنه، وطردوا أحمدتكودار وقتلوه، واعتلى أرغون بن أبغا عرش المملكة، في الوقت الذي كانت فيه رسلالملك المقتول أحمد تكودار قد وصلت إلى القاهرة تحمل رسالة ثانية منه إلى السلطانالمنصور قلاوون، ولكن السفارة جاءت بعد فوات الأوان.
على الرغم من أن أرغون أبغا بذل جهدًا كبيرًا لمحاربة الإسلام فيآيلخانة التتار في فارس؛ لدرجة أنه عين اليهودي «سعد الدولة» وزيرًا له، فإن فترةحكمه كانت بمنزلة انقطاع مؤقت في عملية تحول بطيء وأكيد للتتار من حياة الرعي إلىثقافة الحضر، ومن البوذية إلى الإسلام، كما أن أعدادًا متزايدة من التتار أخذوايدخلون في نسيج الحياة الاجتماعية في العراق وإيران، واستوعبتهم الثقافة العربيةالإسلامية.
وفى الوقت الذي كان فيه سفراء أحمد تكودار في القاهرة يتلقون نبأ موتسلطانهم من السلطان المنصور قلاون, جاءت سفارة من مغول القفجاق من «تدان منكو بنطوغان بن دوشي بن جنكيز خان» ملك القفجاق تقول إنه أسلم «... ويريد أن يُنعت نعتًامن نعوت أهل الإسلام، ويُجهز له علم خليفتي وعلم يقاتل بهما أعداء الدين...» وقدأكرم السلطان المملوكي الرسل، وأمر بسفرهم إلى الحجاز ومن هناك سافروا إلى بلادهمومعهم ما طلبوه.
هذه إشارة أخرى مهمة على أن التتار القفجاق كانوا أكثر اقترابا منالعالم المسلم على الرغم من بعدهم الجغرافى نسبيًا، كما أنها إشارة ذات دلالة مهمةعلى أن الحرب والغزو قد أفسحا مكانهما للعلاقات السلمية، وتخليًا عن مكانهماللتواصل الإنساني بين أعداء الأمس الذين صاروا أبناء حضارة واحدة قوامها الإسلام.
وإذا كانت الاتصالات المملوكية - القفجاقية تعد إرهاصات تنبئ عما حدث في وقت لاحق،فإن لنا أن نتلمس تلك العلاقات الإنسانية الإيجابية التي اختفت خلف قعقعة السلاح أوكادت ، إذ كان الإسلام وحضارته يجتذبان محاربي الأمس الأشداء الذين قضوا على الخلافةالعباسيةوبثوا الرعب في أوصال كل من تعامل معهم،فتحولوا إلى أبناء ثقافة حضرية بناءة، ودخلوا في النسيج العام للحضارة الإسلاميةوصاروا من أشد المدافعين عنها.
ويبدو أن هذا الملك المغولي كان قد سئم مسئوليات الحكم فتخلى عن العرشلابن أخيه «تلابغا بن منكوتمر» بعد حكم استمر حوالي خمس سنين ، وكان السلطان المنصورقلاوون قد جهز هدية إلى هذا الحاكم ، وأرسل مبلغًا من المال لعمارة مسجد جامع بالقرم،واشترط أن تكتب على الجامع ألقاب السلطان قلاوون.
هكذا كانت العلاقات تزداد توطدًابين سلطنة المماليك في مصر والشام من ناحية وبين التتار القفجاق من ناحية أخرى علىمر الأيام.
اعتناق الإسلام :
كانت ولاية غازان (قازان) نقطة تحول مهمة في تاريخ التتار في فارس؛فقد اعتنق هذا الحاكم الإسلام في أثناء ولايته على إقليم خراسان ، وتذكر الرواياتالتاريخية أنه أسلم بتأثير من الأمير نوروز الذي كان زوج عمته ومربيه أيضا ن وعلى أيحال كان اعتناق غازان الدين الإسلامي منعطفا مهمًا في تاريخ العلاقات بين التتاروالمنطقة العربية على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي.
ففي نهاية العام 694هـ - 1295م اعتلى عرش الإيلخانية، وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وكان أول مرسومأصدره ينص على أن الإسلام هو الدين الرسمي لدولة مغول فارس، وأن الشريعة الإسلاميةهي أساس نظام الدولة.
هكذا كان لابد للتتار الذين يحكمون بلادًا مسلمة أن يعتنقواالدين الإسلامي ، ولم يكن الأمر مجرد انتقال من دين إلى دين، بل كان دخولاً عضويًافي نسيج الحضارة الإسلامية التي اكتسبت دماء جديدة وحيوية متجددة بدخول العناصرالتترية فيها.
وبطبيعة الحال كانت هذه الحادثة المهمة - أي اعتناق التتار في فارسالإسلام - تأكيدًا على أن فترة جديدة في تاريخ المغول قد بدأت باندماجهم في المجتمعالفارسي المسلم الذي حكموه، وتحولهم من البداوة إلى الحياة الحضرية المستقرة.
وكان من مظاهر اعتناق غازان الإسلام أن سادت مظاهر الإسلام السني سواءمن حيث ذكر الخلفاء الراشدين في خطبة الجمعة والعيدين والمناسبات من فوق منابرالمساجد، أو من حيث نقش أسمائهم على العملات التي سكها غازان، وما إلى ذلك منمظاهر.
وخلف القسمات المتجهمة الصارمة لهذا العنف السياسي، كانت هناك ملامحإيجابية في العلاقات بين التتار والمسلمين في المنطقة العربية تجلت في عدد منالحقائق المهمة على مستويات مختلفة:
أولا: أن السلطان المملوكي العادل زين الدين كتبغا الذي حكم من المحرم 694هـ حتى المحرم 696هـ (على مدى سنتين وسبعة عشر يوما) في أثناء الفترة ما بينسلطنة الناصر محمد الأولى وسلطنته الثانية، كان من المغول أصلاً ، وقد تولى الحكم فيوقت مقارب لتولي غازان الحكم في إيلخانة مغول فارس.
ثانيًا : كان هناك عدد من التتار الذين هاجروا إلى مصر منذ عهد السلطانالظاهر بيبرس، واستقروا بها ولعبوا دورًا مهمًا في الحياة السياسية، منهم عدد فيخدمة السلطنة وعدد في فرق الجيش.
وقد ذكر المؤرخ جمال الدين أبو المحاسن بن تغريبردي شخصًا اسمه «قنقغ»، هاجر من بلاد التتار إلى مصر في زمن الظاهر بيبرس، فرزقهالله اثني عشر ولدًا كلهم ذكور؛ منهم ستة في خدمة السلطان الأشرف خليل بن قلاوون،وخمسة في خدمة الشجاعى (وزير ومدبر الدولة في سلطنة الناصر محمد قلاوون الأولى)وواحد منهم صغير «... وكان لقنقغ هذا منزلة عند الشجاعي وكلمة مسموعة، وشفاعتهمقبولة، وله اطلاع على أمور الدولة بسبب أولاده...»
ثالثا : أن هجرات التتار المسالمين إلى بلاد الشام ومصر كانت مستمرة - لأسباب عديدة- في عصر سلاطين المماليك (الدولة الأولى) على الرغم من الالتهابالسياسي والعسكري الذي شاب العلاقات بين مغول فارس ودولة سلاطين المماليك فيالبداية ، إذ إن المصادر التاريخية تحدثنا عن هجرة كبيرة من التتار إلى مصر سنة 695هـ.
وكانت هذه الهجرة, التي قادها «طوغاي» زوج ابنة هولاكو، من طائفة الأويراتيةالتي كان منها السلطان العادل زين لدين كتبغا نفسه ، وكان عددهم حوالي ثمانية عشرألف بيت هربوا من غازان وعبروا نهر الفرات إلى بلاد الشام.
ويفهم من كلام المقريزيأنهم كانوا على وثنيتهم «... فلما وصلوا بالغ السلطان في إكرامهم والإحسان إليهم،وأمّر عدة منهم، وبقوا على كفرهم، ودخل شهر رمضان فلم يصم أحد منهم, وصاروا يأكلونالخيل من غير ذبحها؛ بل يربط الفرس ويضرب على وجهه حتى يموت فيؤكل ن فأنف الأمراءجلوسهم معهم بباب المقلة في الخدمة، وعظم على الناس إكرامهم بغضهم في السلطان...». ولكن المؤرخ أبو المحاسن بن تغري بردي يقول إنهم كانوا حوالي عشرة آلاف من عسكربيدو ملك التتار، وأنهم طلبوا الدخول في الإسلام خوفًا من السلطان غازان، ومقدمهماسمه «طوغاي» زوج ابنة هولاكو. والراجح لدينا أن رواية بن تغري بردي هي الأصح؛ لأنبن أيبك الدواداري - الذي كان معاصرًا للأحداث - ذكر رواية ربما يكون بن تغري بردياعتمد عليها تؤكد دخولهم الإسلام.
تداخل وتزاوج:
هكذا تكشف الرواية الأقرب إلى الحدث أن التتار الذين وفدوا إلى الشامكانوا أعلنوا إسلامهم، وربما تكون شكوى المقريزي من تصرفاتهم ناجمة عن حداثة عهدهمبالدين الإسلامي من ناحية واختلاف عاداتهم وتقاليدهم عن عادات وتقاليد المصريين منناحية أخرى.
ولكن المقريزي وغيره يذكرون أن الاوراتية قد اندمجوا في الحياةالقاهرية في ما بعد، وأحبهم الناس وأقبلوا على الزواج منهم لأنهم كانوا يتصفونبالجمال وحسن الصورة ، وعلى الرغم من أن السلطان حسام الدين لاجين قبض على كبيرهمطرغاى وحبسه مع جماعة من كبارهم في مدينة الإسكندرية، فإن أعدادهم زادت وسكنوا حيالحسينية من أحياء القاهرة «... فصار أهل الحسينية لذلك يوصفون بالحسن والجمالالبارع، وأدركنا من ذلك طرفا ، وما برحوا يوصفون بالزعارة والشجاعة؛ وكان يقال لهمالبدورة؛ فيقال البدر فلان والبدر فلان، ويعانون لباس الفتوة وحمل السلاح.
ويؤثرعنهم حكايات كثيرة وأخبار جمة ، وكانت الحسينية قد أربت في عمارتها على سائر أخطاطمصر والقاهرة، حتى لقد قال لي ثقة ممن أدركت من المشيخة : إنه يعرف الحسينية عامرةبالأسواق والدور وسائر شوارعها كافة بازدحام الناس من الباعة والمارة وأربابالمعايش، وأصحاب اللهو والملعوب في ما بين الريدانية محطة المحمل يوم خروج الحاج منالقاهرة، وإلى باب الفتوح لا يستطيع الإنسان أن يمر في هذا الشارع الطويل العريضطول هذه المسافة الكبيرة إلا بمشقة من الزحام...».
هذا النص النادر يكشف عن مدى تغلغل التتار في الحياة المصرية، لأنهيشير إلى دورهم في الحياة القاهرية منذ قدومهم سنة 695 هجرية حتى حياة المقريزي (ت 845هـ).
وبطبيعة الحال كانوا قد تمصروا تماما طوال هذه السنوات المائة والخمسين؛ولكنهم تركوا بصمتهم على أحد أشهر أحياء القاهرة؛ وهو حي الحسينية الذي يقع في قلبالقاهرة الآن بعد أن كان على أطرافها الشمالية الشرقية في عصر سلاطين المماليكويمكن القول من دون مبالغة إن هذا الحي صار حيًا تتريًا.
رابعا: أن التتارقد أسهموا في التصوف الإسلامي؛ ففي سنة 703 هجرية،وفي أثناء سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثانية، «... ورد الخبر على السلطان الناصربقدوم رجل من التتار إلى دمشق، يقال له الشيخ «براق»، ومعه جماعة من الفقراء(الصوفية)... وشيخهم من أبناء الأربعين سنة، وفيه إقدام وجرأة وقوة نفس وله صولة،ومعه طلبخاناه تدق له نوبة (مثل كبار الأمراء الذين كانت تدق لهم الطبول عندأبوابهم أثناء الدخول والخروج)، وله محتسب على جماعته، يؤدب كل من يترك شيئا منسنته بضربه عشرين عصة تحت رجليه... ولكن السلطان منعهم من القدوم إلى الديارالمصرية؛ فسار إلى القدس، ثم رجع إلى بلاده...»، وكان براق هذا من القرم، من إحدىقرى دوقات وكان أبوه أميرًا كما كان عمه كاتبًا معروفًا ولكنه سار في طريق الصوفية،وقد ذكرت المصادر التاريخية خوارق نسبتها إليه.
هذه الأمثلة الأربعة التي قدمناها في الصفحات السابقة تؤكد أن التتارلعبوا أدوارًا مهمة في الحياة السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية في العالمالعربي منذ طرقوا أبوابه في القرن السابع الهجرى - القرن الثالث عشر الميلادي، فقدكان منهم كبار السلاطين (بيبرس، وقلاوون، وكتبغا)، وكان منهم كبار العسكريين الذينلعبوا أدوارًا مهمة في الصراعات المعتادة بين المماليك على السلطة، فقد ذكر بن تغريبردي التتار بوصفهم جماعة ذات بأس وهو يتحدث عن الصراع بين الشجاعي وكتبغا الذيتولى الحكم.
كذلك كان منهم الناس العاديون الذين جاءوا في هجرات كبيرة منذ أيامالسلطان الظاهر بيبرس، وقد تأثر هؤلاء بالحياة الحضرية؛ سواء في مدن بلاد الشام أوفي المدن المصرية عامة، وفى مدينة القاهرة بشكل خاص وفقًا لما أوضح المؤرخ تقيالدين المقريزي في خططه الشهيرة عند حديثه عن حي الحسينية.
وعلى مستوى العادات والتقاليد كان التأثير المتبادل بين التتارالمستوطنين وأهالي البلاد التي عاشوا بها واضحًا في أنواع الأكل والشراب التتاريةالتي دخلت قائمة الطعام الشامية والمصرية والعراقية، أو في أنماط الملابس التياتخذها التتار الذين قلدوا أهالي البلاد التي استوطنوها.
ومن ناحية أخرى، دخلالتتار نسيج الحياة الاجتماعية من خلال المصاهرة والزواج، وتذكر المصادر التاريخيةأن الناس في مصر، مثلا، كانوا يقبلون على التزاوج مع التتار بسبب جمالهم وحسنهم؛ بلإنهم كانوا يشجعونهم على الهجرة من بلادهم، ومن فارس والعراق وبلاد الشام, إلى مصر.
خلاصة القول إذن إن صفحات العلاقات الإيجابية بين التتار والمنطقةالعربية في عصر سلاطين المماليك كثيرة وناصعة على الرغم من أن لون الدم والناروالدخان يغلب على صفحات العلاقات العسكرية، صحيح أن المعارك العسكرية هي الأعلىصوتًا في التاريخ، ولكن العلاقات السلمية الايجابية هي الأبقى والأقوى تأثيرًا ، فقدصار التتار قوة مهمة مضافة إلى الحضارة العربية الإسلامية, كما أنهم صاروا عضوامهمًا داخل دار الإسلام في ذلك الزمان، وما بعده.
15/02/1431 الموافق 30/01/2010
اقترن ذكر التتار في التاريخ، غالبا، بالحرب والغزو، ولكنهناك جانبًا مختلفًا عن الحرب والغزو اللذين سيطرت أخبارهما على صفحات كتب المؤرخينوالمعاصرين، وسنحاول التركيز على جوانب العلاقات الإيجابية على المستوى السكاني،والاجتماعي، والثقافي بين العالم العربي والتتار.
على الرغم من أن دولة مغول القفجاق (القبيلة الذهبية) حول نهر الفولجاجنوب روسيا قد سبقت مغول فارس في اعتناق الإسلام منذ عهد بركة خان فإن التتار فيفارس قد دخلوا الإسلام أيضًا بعد اعتناق قازان (غازان) الإسلام في أواخر القرنالثالث عشر الميلادي.
كان إسلام «بركة خان»، زعيم القبيلة الذهبية فرصة لبناء نوع منالعلاقات مع المنطقة العربية، فقد رأى السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري(وهو من مغول القفجاق أيضًا) في هذه المملكة المغولية حليفًا مهمًا ضد هولاكووأتباعه ممن كانوا لايزالون على الوثنية. وقد توترت العلاقات بين بركة خان (كبيرسلالة جنكيز خان آنذاك) وهولاكو، وتراشق الاثنان بالاتهامات، كان هولاكو غاضبًا لأنبركة خان اعتنق الإسلام على حين كان بركة خان حانقًا على هولاكو؛ لأنه دمر جميع مدنالمسلمين وقضى على أسر ملوك الإسلام جميعهم، ولم يميز بين الصديق والعدو وأعدمالخليفة، من دون مشورة كبار الأسرة، ثم تطورت الأمور بين الجانبين إلى مستوى الحربالفعلية. وقد أدى هذا الموقف إلى تقارب بركة خان مع السلطان الظاهر ركن الدين بيبرسالمؤسس الفعلي لدولة سلاطين المماليك في مصر. وقد كان الطرفان حريصين على هذاالتقارب لمواجهة العدو المشترك المتمثل في مغول فارس.
من خضم أهوال الحرب بدأت العلاقات الإنسانية تحفر طريقها بينالجانبين، وقد ذكرت المصادر التاريخية في حوادث العام 660هـ / 1662م قدوم هجرةمحدودة من التتار على حدود بلاد الشام، فأمر بيبرس بإكرامهم وإرسالهم إلى مصر،وقابلهم بنفسه. وكانوا حوالي مائتي فارس ومعهم أولادهم ونساؤهم، وسكنوا بأرض اللوقفي القاهرة، وجعل بيبرس أكابرهم من أمراء دولته، ثم ضم الباقين إلى فرقة المماليكالبحرية ، واعتنقوا الإسلام.
ويبدو أن معاملة بيبرس الكريمة لهم قد أغرت مزيدًا منالتتار على القدوم إلى مصر، ففي السنة التالية جاء من التتار أكثر من ألف وثلاثمائةفارس سكنوا أيضًا في اللوق.
ووصل رسولان من بركة خان وهما جلال الدين بن قاضي دوقات، وعز الدينالتركماني يحملان رسالة ودية إلى بيبرس الذي رد ردًا جميلاً، وأرسل إلى بركة خانرسالة مصحوبة بهدية فاخرة، وأعلن موافقته على ما جاء في رسالة بركة خان ، وقد قابلبركة خان رسل بيبرس وأعجبته رسالة بيبرس.
ومن ناحية أخرى أمر بيبرس بالدعاء للخان التتري على منابر القاهرةوالقدس والحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة، كما تزوج بيبرس من ابنةبركة خان توطيدًا لهذه العلاقات.
وعلى مستوى آخر تمثلت العلاقات الدينية بين العالم العربي ودولة مغولالقفجاق في وجود عدد من الفقهاء المسلمين في بلاط بركة خان، وقد كان عنده صوفي منأهل الفيوم اسمه «الشيخ أحمد المصري»، و«... له عنده حرمة كبيرة...». وعند كل أميرمن أمرائه مؤذن وإمام، ولكل «خاتون» مؤذن وإمام، وللصغار مكاتب يتعلمون فيها القرآنالكريم.
وفى سنة 670هـ وصلت رسل بيت بركة خان، زعيم القفجاق، «... وكان مضمونالرسالة على أيدي رسل بركة، مكتوبًا بجميع ما استولى عليه هلاوون (هولاكو) مما كانفي أيدي المسلمين من قبل، يكون في ملك السلطان الملك الظاهر, وأن يساعدهم على قلعآثار بيت هلاوون، فأحسن السلطان لهم الجواب في ذلك ووعدهم ببلوغ المقصود».
وتولى الحكم بعده ابنه السلطان الملك السعيد ناصر الدين بركة خان «وهو ابنه الذي أنجبه من ابنة بركة خان، زعيم المغول القفجاق، وقد أعطاه نفس اسمجده لأمه تيمنًا بهذا الجد.
وكان عمر الابن سبعة عشر عامًا، ودخل دمشق في شهر ذي الحجة من السنةنفسها وصحبته والدته بنت بركة خان ، ولكن السلطان الصبي لم يكن على شاكلة أبيه ، وبعدتطورات خلع نفسه من الحكم.
وتولى الحكم «السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي الصالحيالنجمي العلائي» ويرجع أصله - مثل سلفه ركن الدين بيبرس - إلى مغول القفجاق ، وهمالذين سبقت الإشارة إليهم, وعندما تولى الحكم كانت علاقاتهم بدولة سلاطين المماليكممتازة بسبب التحالف والمصاهرة بين بيبرس وبركة خان، وربما يكون من الأمور ذاتالدلالة والأهمية أن بيبرس وقلاوون كانا من القبيلة الذهبية، وان زوجة بيبرس وأمابنه السلطان السعيد بركة خان هي ابنة خان هذه المملكة المغولية.
مواجهة التتار:
على أي حال فإن السلطان المنصور قلاوون ورث سياسة سلفه بيبرس، وكانعليه مواجهة تتار فارس، الذين انتهزوا فرصة الاضطراب الذي أعقب وفاة بيبرس ومتاعبالبداية التي واجهت قلاوون، وبدءوا شن هجماتهم على المناطق الخاضعة لحكم دولةسلاطين المماليك، ثم مات أبغا بن هولاكو، وأخذت العلاقات مع التتار اتجاها آخر - لميستمر طويلا بعد أن اعتنق تكودار هولاكو الدين الإسلامي ، إذ تولى هذا الرجل حكمفارس وسمى نفسه «أحمد أغا سلطان بن هولاكو» .
وقد أكرم السلطان المنصور قلاوون رسل الخان التتري، وخرجوا من القاهرةسرًا كما دخلوها سرًا ، على أي حال، كان أحمد تكودار قد اعتنق الإسلام قبل ولايةالعرش ، وقد أرسل إلى فقهاء بغداد رسائل تحمل هذا المعنى.
مشكلات الوراثة :
بيد أن مشكلات وراثة العرش في مملكة مغول فارس كانت سببًا في تطورالأمور على النحو الذي أدى إلى خروج أرغون بن أبغا، الذي كان أبوه قد عهد إليهولاية العرش، ضد عمه أحمد تكودار في خراسان.
وعلى الرغم من هزيمة أرغون وسقوطه أسيرًا في يدي عمه الذي «... عادطالبًا تبريز ، فحضرت زوجة أرغون ووالدته ، وخواتين كثيرة من الستات التي لهن الحق فيالدخول على الملك والسؤال في العفو عن أرغون وإطلاق سبيله والاقتصار به على خراسانكما كان...». على حد تعبير المؤرخ بيبرس الدوادار.
ولكن التتار في فارس - أو كبارهمبالأحرى - كانوا قد حقدوا على الخان أحمد سلطان تكودار عندما رفض إطلاق سراح أرغون،قبل تدخل قريباته من الخواتين، وقبض على عدد من كبار التتار في فارس، وألزمهماعتناق الدين الإسلامي ، وقد ساروا جميعًا وأطلقوا سراح أرغون من سجنه، وطردوا أحمدتكودار وقتلوه، واعتلى أرغون بن أبغا عرش المملكة، في الوقت الذي كانت فيه رسلالملك المقتول أحمد تكودار قد وصلت إلى القاهرة تحمل رسالة ثانية منه إلى السلطانالمنصور قلاوون، ولكن السفارة جاءت بعد فوات الأوان.
على الرغم من أن أرغون أبغا بذل جهدًا كبيرًا لمحاربة الإسلام فيآيلخانة التتار في فارس؛ لدرجة أنه عين اليهودي «سعد الدولة» وزيرًا له، فإن فترةحكمه كانت بمنزلة انقطاع مؤقت في عملية تحول بطيء وأكيد للتتار من حياة الرعي إلىثقافة الحضر، ومن البوذية إلى الإسلام، كما أن أعدادًا متزايدة من التتار أخذوايدخلون في نسيج الحياة الاجتماعية في العراق وإيران، واستوعبتهم الثقافة العربيةالإسلامية.
وفى الوقت الذي كان فيه سفراء أحمد تكودار في القاهرة يتلقون نبأ موتسلطانهم من السلطان المنصور قلاون, جاءت سفارة من مغول القفجاق من «تدان منكو بنطوغان بن دوشي بن جنكيز خان» ملك القفجاق تقول إنه أسلم «... ويريد أن يُنعت نعتًامن نعوت أهل الإسلام، ويُجهز له علم خليفتي وعلم يقاتل بهما أعداء الدين...» وقدأكرم السلطان المملوكي الرسل، وأمر بسفرهم إلى الحجاز ومن هناك سافروا إلى بلادهمومعهم ما طلبوه.
هذه إشارة أخرى مهمة على أن التتار القفجاق كانوا أكثر اقترابا منالعالم المسلم على الرغم من بعدهم الجغرافى نسبيًا، كما أنها إشارة ذات دلالة مهمةعلى أن الحرب والغزو قد أفسحا مكانهما للعلاقات السلمية، وتخليًا عن مكانهماللتواصل الإنساني بين أعداء الأمس الذين صاروا أبناء حضارة واحدة قوامها الإسلام.
وإذا كانت الاتصالات المملوكية - القفجاقية تعد إرهاصات تنبئ عما حدث في وقت لاحق،فإن لنا أن نتلمس تلك العلاقات الإنسانية الإيجابية التي اختفت خلف قعقعة السلاح أوكادت ، إذ كان الإسلام وحضارته يجتذبان محاربي الأمس الأشداء الذين قضوا على الخلافةالعباسيةوبثوا الرعب في أوصال كل من تعامل معهم،فتحولوا إلى أبناء ثقافة حضرية بناءة، ودخلوا في النسيج العام للحضارة الإسلاميةوصاروا من أشد المدافعين عنها.
ويبدو أن هذا الملك المغولي كان قد سئم مسئوليات الحكم فتخلى عن العرشلابن أخيه «تلابغا بن منكوتمر» بعد حكم استمر حوالي خمس سنين ، وكان السلطان المنصورقلاوون قد جهز هدية إلى هذا الحاكم ، وأرسل مبلغًا من المال لعمارة مسجد جامع بالقرم،واشترط أن تكتب على الجامع ألقاب السلطان قلاوون.
هكذا كانت العلاقات تزداد توطدًابين سلطنة المماليك في مصر والشام من ناحية وبين التتار القفجاق من ناحية أخرى علىمر الأيام.
اعتناق الإسلام :
كانت ولاية غازان (قازان) نقطة تحول مهمة في تاريخ التتار في فارس؛فقد اعتنق هذا الحاكم الإسلام في أثناء ولايته على إقليم خراسان ، وتذكر الرواياتالتاريخية أنه أسلم بتأثير من الأمير نوروز الذي كان زوج عمته ومربيه أيضا ن وعلى أيحال كان اعتناق غازان الدين الإسلامي منعطفا مهمًا في تاريخ العلاقات بين التتاروالمنطقة العربية على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي.
ففي نهاية العام 694هـ - 1295م اعتلى عرش الإيلخانية، وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وكان أول مرسومأصدره ينص على أن الإسلام هو الدين الرسمي لدولة مغول فارس، وأن الشريعة الإسلاميةهي أساس نظام الدولة.
هكذا كان لابد للتتار الذين يحكمون بلادًا مسلمة أن يعتنقواالدين الإسلامي ، ولم يكن الأمر مجرد انتقال من دين إلى دين، بل كان دخولاً عضويًافي نسيج الحضارة الإسلامية التي اكتسبت دماء جديدة وحيوية متجددة بدخول العناصرالتترية فيها.
وبطبيعة الحال كانت هذه الحادثة المهمة - أي اعتناق التتار في فارسالإسلام - تأكيدًا على أن فترة جديدة في تاريخ المغول قد بدأت باندماجهم في المجتمعالفارسي المسلم الذي حكموه، وتحولهم من البداوة إلى الحياة الحضرية المستقرة.
وكان من مظاهر اعتناق غازان الإسلام أن سادت مظاهر الإسلام السني سواءمن حيث ذكر الخلفاء الراشدين في خطبة الجمعة والعيدين والمناسبات من فوق منابرالمساجد، أو من حيث نقش أسمائهم على العملات التي سكها غازان، وما إلى ذلك منمظاهر.
وخلف القسمات المتجهمة الصارمة لهذا العنف السياسي، كانت هناك ملامحإيجابية في العلاقات بين التتار والمسلمين في المنطقة العربية تجلت في عدد منالحقائق المهمة على مستويات مختلفة:
أولا: أن السلطان المملوكي العادل زين الدين كتبغا الذي حكم من المحرم 694هـ حتى المحرم 696هـ (على مدى سنتين وسبعة عشر يوما) في أثناء الفترة ما بينسلطنة الناصر محمد الأولى وسلطنته الثانية، كان من المغول أصلاً ، وقد تولى الحكم فيوقت مقارب لتولي غازان الحكم في إيلخانة مغول فارس.
ثانيًا : كان هناك عدد من التتار الذين هاجروا إلى مصر منذ عهد السلطانالظاهر بيبرس، واستقروا بها ولعبوا دورًا مهمًا في الحياة السياسية، منهم عدد فيخدمة السلطنة وعدد في فرق الجيش.
وقد ذكر المؤرخ جمال الدين أبو المحاسن بن تغريبردي شخصًا اسمه «قنقغ»، هاجر من بلاد التتار إلى مصر في زمن الظاهر بيبرس، فرزقهالله اثني عشر ولدًا كلهم ذكور؛ منهم ستة في خدمة السلطان الأشرف خليل بن قلاوون،وخمسة في خدمة الشجاعى (وزير ومدبر الدولة في سلطنة الناصر محمد قلاوون الأولى)وواحد منهم صغير «... وكان لقنقغ هذا منزلة عند الشجاعي وكلمة مسموعة، وشفاعتهمقبولة، وله اطلاع على أمور الدولة بسبب أولاده...»
ثالثا : أن هجرات التتار المسالمين إلى بلاد الشام ومصر كانت مستمرة - لأسباب عديدة- في عصر سلاطين المماليك (الدولة الأولى) على الرغم من الالتهابالسياسي والعسكري الذي شاب العلاقات بين مغول فارس ودولة سلاطين المماليك فيالبداية ، إذ إن المصادر التاريخية تحدثنا عن هجرة كبيرة من التتار إلى مصر سنة 695هـ.
وكانت هذه الهجرة, التي قادها «طوغاي» زوج ابنة هولاكو، من طائفة الأويراتيةالتي كان منها السلطان العادل زين لدين كتبغا نفسه ، وكان عددهم حوالي ثمانية عشرألف بيت هربوا من غازان وعبروا نهر الفرات إلى بلاد الشام.
ويفهم من كلام المقريزيأنهم كانوا على وثنيتهم «... فلما وصلوا بالغ السلطان في إكرامهم والإحسان إليهم،وأمّر عدة منهم، وبقوا على كفرهم، ودخل شهر رمضان فلم يصم أحد منهم, وصاروا يأكلونالخيل من غير ذبحها؛ بل يربط الفرس ويضرب على وجهه حتى يموت فيؤكل ن فأنف الأمراءجلوسهم معهم بباب المقلة في الخدمة، وعظم على الناس إكرامهم بغضهم في السلطان...». ولكن المؤرخ أبو المحاسن بن تغري بردي يقول إنهم كانوا حوالي عشرة آلاف من عسكربيدو ملك التتار، وأنهم طلبوا الدخول في الإسلام خوفًا من السلطان غازان، ومقدمهماسمه «طوغاي» زوج ابنة هولاكو. والراجح لدينا أن رواية بن تغري بردي هي الأصح؛ لأنبن أيبك الدواداري - الذي كان معاصرًا للأحداث - ذكر رواية ربما يكون بن تغري بردياعتمد عليها تؤكد دخولهم الإسلام.
تداخل وتزاوج:
هكذا تكشف الرواية الأقرب إلى الحدث أن التتار الذين وفدوا إلى الشامكانوا أعلنوا إسلامهم، وربما تكون شكوى المقريزي من تصرفاتهم ناجمة عن حداثة عهدهمبالدين الإسلامي من ناحية واختلاف عاداتهم وتقاليدهم عن عادات وتقاليد المصريين منناحية أخرى.
ولكن المقريزي وغيره يذكرون أن الاوراتية قد اندمجوا في الحياةالقاهرية في ما بعد، وأحبهم الناس وأقبلوا على الزواج منهم لأنهم كانوا يتصفونبالجمال وحسن الصورة ، وعلى الرغم من أن السلطان حسام الدين لاجين قبض على كبيرهمطرغاى وحبسه مع جماعة من كبارهم في مدينة الإسكندرية، فإن أعدادهم زادت وسكنوا حيالحسينية من أحياء القاهرة «... فصار أهل الحسينية لذلك يوصفون بالحسن والجمالالبارع، وأدركنا من ذلك طرفا ، وما برحوا يوصفون بالزعارة والشجاعة؛ وكان يقال لهمالبدورة؛ فيقال البدر فلان والبدر فلان، ويعانون لباس الفتوة وحمل السلاح.
ويؤثرعنهم حكايات كثيرة وأخبار جمة ، وكانت الحسينية قد أربت في عمارتها على سائر أخطاطمصر والقاهرة، حتى لقد قال لي ثقة ممن أدركت من المشيخة : إنه يعرف الحسينية عامرةبالأسواق والدور وسائر شوارعها كافة بازدحام الناس من الباعة والمارة وأربابالمعايش، وأصحاب اللهو والملعوب في ما بين الريدانية محطة المحمل يوم خروج الحاج منالقاهرة، وإلى باب الفتوح لا يستطيع الإنسان أن يمر في هذا الشارع الطويل العريضطول هذه المسافة الكبيرة إلا بمشقة من الزحام...».
هذا النص النادر يكشف عن مدى تغلغل التتار في الحياة المصرية، لأنهيشير إلى دورهم في الحياة القاهرية منذ قدومهم سنة 695 هجرية حتى حياة المقريزي (ت 845هـ).
وبطبيعة الحال كانوا قد تمصروا تماما طوال هذه السنوات المائة والخمسين؛ولكنهم تركوا بصمتهم على أحد أشهر أحياء القاهرة؛ وهو حي الحسينية الذي يقع في قلبالقاهرة الآن بعد أن كان على أطرافها الشمالية الشرقية في عصر سلاطين المماليكويمكن القول من دون مبالغة إن هذا الحي صار حيًا تتريًا.
رابعا: أن التتارقد أسهموا في التصوف الإسلامي؛ ففي سنة 703 هجرية،وفي أثناء سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثانية، «... ورد الخبر على السلطان الناصربقدوم رجل من التتار إلى دمشق، يقال له الشيخ «براق»، ومعه جماعة من الفقراء(الصوفية)... وشيخهم من أبناء الأربعين سنة، وفيه إقدام وجرأة وقوة نفس وله صولة،ومعه طلبخاناه تدق له نوبة (مثل كبار الأمراء الذين كانت تدق لهم الطبول عندأبوابهم أثناء الدخول والخروج)، وله محتسب على جماعته، يؤدب كل من يترك شيئا منسنته بضربه عشرين عصة تحت رجليه... ولكن السلطان منعهم من القدوم إلى الديارالمصرية؛ فسار إلى القدس، ثم رجع إلى بلاده...»، وكان براق هذا من القرم، من إحدىقرى دوقات وكان أبوه أميرًا كما كان عمه كاتبًا معروفًا ولكنه سار في طريق الصوفية،وقد ذكرت المصادر التاريخية خوارق نسبتها إليه.
هذه الأمثلة الأربعة التي قدمناها في الصفحات السابقة تؤكد أن التتارلعبوا أدوارًا مهمة في الحياة السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية في العالمالعربي منذ طرقوا أبوابه في القرن السابع الهجرى - القرن الثالث عشر الميلادي، فقدكان منهم كبار السلاطين (بيبرس، وقلاوون، وكتبغا)، وكان منهم كبار العسكريين الذينلعبوا أدوارًا مهمة في الصراعات المعتادة بين المماليك على السلطة، فقد ذكر بن تغريبردي التتار بوصفهم جماعة ذات بأس وهو يتحدث عن الصراع بين الشجاعي وكتبغا الذيتولى الحكم.
كذلك كان منهم الناس العاديون الذين جاءوا في هجرات كبيرة منذ أيامالسلطان الظاهر بيبرس، وقد تأثر هؤلاء بالحياة الحضرية؛ سواء في مدن بلاد الشام أوفي المدن المصرية عامة، وفى مدينة القاهرة بشكل خاص وفقًا لما أوضح المؤرخ تقيالدين المقريزي في خططه الشهيرة عند حديثه عن حي الحسينية.
وعلى مستوى العادات والتقاليد كان التأثير المتبادل بين التتارالمستوطنين وأهالي البلاد التي عاشوا بها واضحًا في أنواع الأكل والشراب التتاريةالتي دخلت قائمة الطعام الشامية والمصرية والعراقية، أو في أنماط الملابس التياتخذها التتار الذين قلدوا أهالي البلاد التي استوطنوها.
ومن ناحية أخرى، دخلالتتار نسيج الحياة الاجتماعية من خلال المصاهرة والزواج، وتذكر المصادر التاريخيةأن الناس في مصر، مثلا، كانوا يقبلون على التزاوج مع التتار بسبب جمالهم وحسنهم؛ بلإنهم كانوا يشجعونهم على الهجرة من بلادهم، ومن فارس والعراق وبلاد الشام, إلى مصر.
خلاصة القول إذن إن صفحات العلاقات الإيجابية بين التتار والمنطقةالعربية في عصر سلاطين المماليك كثيرة وناصعة على الرغم من أن لون الدم والناروالدخان يغلب على صفحات العلاقات العسكرية، صحيح أن المعارك العسكرية هي الأعلىصوتًا في التاريخ، ولكن العلاقات السلمية الايجابية هي الأبقى والأقوى تأثيرًا ، فقدصار التتار قوة مهمة مضافة إلى الحضارة العربية الإسلامية, كما أنهم صاروا عضوامهمًا داخل دار الإسلام في ذلك الزمان، وما بعده.